السيرة السينمائية للمؤلف والروائى البريطانى
“أليكس جارلاند” وما تتضمنها من أفلام مثل Sunshine و 28 Days Later و Dredd، تؤكد أن
الرجل مصاب بوسواس الأفكار الأبوكاليبسية، سواء تلك التى تبشر بنهاية البشرية أو
حتى بأوضاع مستقبلية متشائمة. فمثلا الفيلم الأول يضع ذلك الوسواس فى
اطار كوزموسى تكون فيه حياة الانسان على الارض مهددة بسب إنطفاء الشمس، أما الثانى
فهو أحد أشهر الأفلام التى تروج لأسطورة الزومبى وتكون فيه البشرية مهددة بانتشار
هذا الوباء الخيالى المرعب، والثالث
يدور فى حقبة زمنية طاغية الديستوبيا تكون فيها البشرية مهددة بسبب اختفاء مفهوم
النظام. وحتى فيلمه Never Let Me Go المأخوذ عن الرواية
الأكثر مبيعاً والذى ابتعد قليلاً عن هذا الوسواس لكنه ظل يبث التشاؤم حول المصير
الظالم للحالة الانسانية مع تقدم الطب وتطور أنشطة نقل الأعضاء فى عالم صار فيه
الانسان ذو الثروة وكرم النسب هو الأحق بالحياة ولو على حساب
حياة الآخرين.
لم
يتغير شىء فى فيلمه الأخير والأحدث Ex Machina سوى أنه انتقل من مرتبة
الكاتب إلى مرتبة الكاتب والمخرج معاً، أما وسواس الفناء الذى يؤرقه فقد ظل
حاضراً وبقوة فى حكايته عن “ناثان” ذلك المبرمج البليونير
صاحب أكبر شركة لمحركات البحث فى العالم، والذى يجرى مسابقة لموظفى شركته
جائزتها هى قضاء أسبوع فى قصره الأسطورى، يفوز بها “كاليب” الشاب الطموح المنطوى، وبعد ذهابه لقصر ناثان الغامض والمريب يكتشف
أن مهمته هى أن يجرى “إختبار تيورينج” لأحدث اختراعات “ناثان” والذى كان
عبارة عن روبوت فى هيئة أنثى مصممة بأعقد أساليب الذكاء الاصطناعى،
ولمن لا يعلم “إختبار تيورينج” فهو طريقة علمية لإختبار آلات وبرامج الذكاء
الاصطناعى وتقييم مدى تشابهها مع عقل الإنسان فى طريقة التفكير واتخاذ
القرارات. ناثان يخبر كاليب بأنه يريد التأكد من كون اختراعه يملك وعياً
حقيقياً مثل الذى يتمتع به الإنسان وليس مجرد وعى إستيهامى يعمل بطرق
البرمجة التقليدية والألجوريزمات البسيطة.
بحماس
حذر يوافق كاليب مخبراً ناثان بأن نجاح هذا الاختبار يعنى أن الإنسان قد
تحول إلى إله، لكن ناثان لم يكن يشاطره نفس الحماس والطموح الإنسانوى، على
العكس فقد أخبره لاحقاً أنه ذات يوم ستنظر آلات الذكاء الإصطناعى إلى
الإنسان
نفس النظرة التى ينظرها إنسان اليوم لحفريات الإنسان البدائى المنقرض فى
أفريقيا. وهنا تظهر تيمتان رئيسيتان من تيمات الفيلم، تيمة الخلق وتيمة
الإنقراض أو أن يحل الروبوت محل الإنسان فتكون النهاية، فكما نعرف أن
جارلاند مصاب بوسواس الفناء. لكن السؤال هل التهديد هذه المرة حقاً يأتى من
الروبوت؟
فى مقابلة أجرتها صحفية النيويورك تايمز “مورين دوود” مع صانع الفيلم جارلاند
سألته متأثرة بتاريخه الروائى “من تظنه سيقضى على البشرية أولاً، الروبوت أم
الزومبى؟”، فجائت إجابته “لا هذا ولا ذاك، سنقوم نحن [يقصد الإنسان] بهذه
المهمة بدون أية مساعدة من الروبوت أو الزومبى”. هذه المقابلة ضمنتها “دوود”
داخل مقالة تحليلية كتبتها عن الفيلم من منظور نسوى معجب بالفيلم حيث ترى
أن وقوع الذكر فى حب أنثى بلاستيكية بلا شعر هو انتصار لمفهوم الأنثى ككيان
فوق جنسى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن “دوود” كاتبة نسوية ذائعة الصيت لها كتاب بعنوان “هل الرجال ضروريون؟ عندما يتصادم الجنسان”
بجانب عنوانه الصادم يروج هذا الكتاب لأفكار الحركات النسوية المعاصرة فى
التمرد على طبيعة العلاقة التى تحكم الجنسين وفقا للمعايير البيولوجية، حتى
انها ترفض معايير الجمال وإظهار الأنوثة التى تجذب الرجل لأنها فى نظرها تجعل من
الأنثى أداة جنسية أو ساقطة.
على
أية حال فإن تناول الأفلام من منظور نسوى أصبح موضة السنوات الأخيرة حتى لو
لم يكن للفيلم علاقة بالصراع النوعى/الجنسى، فالنسوية تصيب أتباعها بنوع
من البارانويا يجعلهم لا يرون الأشياء كما تبدو ويؤثرن التعمق المفتعل لفضح
مؤامرة ما تحاك ضد المرأة، حتى انه ظهرت دعابة بإحدى مجلات الكوميك عن هذا
الأمر ثم تحولت إلى إختبار فى تقييم الأفلام يسمى Bechdel Test إختبار بيتشدل
وهذا الاختبار ينص على انه يجب على أى فيلم أن يحتوى على مشهد واحد على
الأقل به أنثتين يتحدثن فى موضوع آخر غير الرجل كى لا يصنف ذلك الفيلم
عنصرى ضد المرأة!
الآن،
هل تناول فيلم Ex Machina من منظور نسوى أو لنقل جنسانى بشكل عام سيكون هو الآخر امتداد لهذه
الموضة من البارانويا النسوية؟ الإجابة فى رأيى هى لا؛ حيث أن الفيلم احتوى على
عديد من التفصيلات بل الأساسيات التى تؤكد ضلوعه فى التعرض للصراع الجنسانى
Gender War، وبالتالى فالتعامل معه من المنطق الذى فرضه بنفسه إنما يكون عين الموضوعية.
أولاً،
خياره إعطاء الروبوت صفة جنسية (أنثى) بالرغم من انه لم يكن بحاجة لذلك لو
كان محور قضية الفيلم يقتصر على البُعد التكنولوجى، كما حدث مع العديد من
الروبوتات فى تاريخ السينما على سبيل المثال Hal 9000 فى فيلم “2001:
أوديسة الفضاء” أو تارس فى فيلم Interstellar.
ثانياً،
إختياره إسم Ava ليطلقه على الروبوت والذى يتشابه لدرجة التطابق مع اسم
Eve أى حواء بالإنجليزية، وهو إيحاء شديد الوضوح بأنها ليست مجرد أنثى بل
هى الأنثى.
ثالثاً،
عندما نعلم قبل نهاية الأحداث بقليل أن “ناثان” قد صنع العديد من تلك
الروبوتات لأغراض جنسية وقد أعطى لكل منهن عنصر شكلى مختلف:
آسيوية/بيضاء/سوداء/شقراء/سمراء، وكأنه حول معمل إختباراته إلى حرملك حداثى
يستطيع إشباع جميع النزوات والميول، ويكون فى هذا الحرملك هو السيد وهن
العبيد، أو ليتحقق التعبير النسوى الشهير بشكل عملى هذه المرة فيصبحن
بالفعل مجرد آلات جنسية لإشباع الرجل، فى ترميز واضح للصراع الجنسانى
الكلاسيكى بين الذكر والأنثى.
لنسترسل
قليلاً
فيما وراء شخصية ناثان. هو بلا شك ترميز للذكورية البغيضة. ومن الممكن ان
يعتبره
البعض أيضاً ترميزاً للإله بالمفهوم التوراتى الكلاسيكى الذى خلق حواء
(آفا) من ضلع آدم، والفيلم احتوى على ما يشبه قصة الخطيئة الأولى. وربما
هو ليس الإله ولكنه الشيطان الذى تلاعب بأدم وحواء أو لنقل كاليب و آفا كى
ينتصر
فى تحدٍ ما. كل هذه الفرضيات ممكنة وأظنها تتكامل أكثر مما تتناقض. ولكنى
أميل لأحسب ناثان بشكل أكبر كممثلاً للطبيعة، نلاحظ شكل المكان الذى يعيش
به
والذى يعج بكل مظاهر الطبيعة من أنهار وغابات وشلالات وجبال وهضاب، كما أن
أحاديثه
تصب دائما فى صالح النظرية التطورية، نلاحظ أيضاً ان عنوان الفيلم قد تلاعب
بالتعبير الأصلى من الكلمة وهى Deus Ex Machina ،وكلمة Deus الذى تم الاستغناء عنها تعنى الإله
باللغة الإغريقية، وكأن صانع الفيلم يريد استبعاد دور الإله بمفهومه الكلاسيكى
سواء رمزياً أو على الأقل للتأكيد على اننا فى مرحلة ما بعد الإله، أو أن الانسان كجزء محرك للطبيعة التطورية أصبح هو الإله .
فى أحد أقوى مشاهد الفيلم يوجه كاليب سؤاله إلى ناثان أو
كما ذهبنا فى الفقرة السابقة إلى أن ناثان هو الطبيعة إذا فالسؤال فى حقيقته هو
للطبيعة: “لماذا
أعطيت آفا الجنسانية؟”،
والحقيقة أن إجابة ناثان
أتت قوية، مثيرة للتفكير، وموضوعية لدرجة كبيرة، ومن الإجحاف اعتبارها مجرد جزء من
الخدعة التى يرتب لها ناثان.
ذو نزعة فرويدية يرى أن الجنس هو المحرك الأساسى لكل شىء، وما من وعى حقيقى عرفناه
إللا وكان للجنس دوراً، فالوعى أساسه التواصل، والجنس هو المحور والمحفز الأهم
للتواصل. أما الشق الثانى فهو دعوة لللا عقلانية، أو بمعنى أصح رفض المبالغة فى
عقلنة كل شىء، وحساب كل فعل نفعله وفقاً لمعايير المنطق والسببية، وضرب مثل الرسام
العبقرى الذى لو كان توقف ليتسائل عن السبب الموضوعى من وراء ما يفعله لما وطأت
ريشته أية لوحة، فالمبالغة السببية تؤدى فى النهاية إلى وعى يتصرف بشكل
أوتوماتيكى، بينما التحدى الحقيقى هو صنع وعى يتصرف بشكل غير أوتوماتيكى، من الرسم
إلى التنفس إلى التحدث إلى ممارسة الجنس، إلى الوقوع فى الحب. لأن هذا ما يجعلنا
بشراً ويميزنا عن الروبوتات حتى لو لم يكن لهذه الأفعال أى معنى حقيقى، وكانت محض
وهم.
وهنا فالفيلم الذى يتخذ
من الذكاء الاصطناعى تيمة لأحداثه نجده يعلى من شأن العاطفة أكثر من الذكاء ذاته،
تجلى الأمر أيضاً بعد أول لقاء بين كاليب وآفا حين سأل ناثان “بماذا شعرت
نحوها، لا أريد رأى تحليلى، فقط أريد أن اعرف بماذا شعرت؟” ليجيبه كاليب:
“انها رائعة”، ثم تستمر الأحداث ونكتشف الخدعة ثلاثية الأضلاع، ناثان
الذى يتلاعب بكاليب وآفا، ثم آفا التى تتلاعب بكاليب وناثان، ثم كاليب الذى يتلاعب
بناثان، ثم نجد أن من ينتصر فى النهاية يكون آفا، لكن ماذا يعنى هذا الإنتصار على
أية حال؟ !
هذا ما يرجعنا لحالة الصخب النسوى التى
أثارها هذا الفيلم، ولنتوقف هذه المرة مع مقالة تحليلية لشخصية نسوية أخرى تدعى “ناتالى
ويلسون” بمجلة “إم إس مجازين” وهى تختلف مع “مورين دوود”
بأن الفيلم يروج للأفكار النسوية، حيث تقول: “أعترف بأن الفيلم يستكشف مسائل الجنس والنوع
بأسلوب شيق لكنه يفشل فى إدانة الحالة التى يستخدم بها الجنس كأداة لتسيد المرأة”
إنتهى.
والأكثر إثارة هنا
كان تعليق نسوى على هذا المقال لإمرأة تدعى كيت تقول: “أعتقد أن عدم إنجذاب آفا لأى من الرجلين هو
اشارة إلى أنها فى الطريق السليم”،
وباقى التعليق يؤكد على نفس الفكرة مع إضافة ما يوحى بأن الأنثى التى تنجذب لرجل
ما جنسيا ليست حرة بل هى مجرد وعاء جنسى!
إذاً نستخلص من الثلاث
أراء النسوية التى قمنا بعرضها حتى الآن بأن هذه الأيديولوجية النسوية تتبنى
موقفاً عدائياً ضد الرجل، وعقدة ما تجاه الجنس، الأمر لم يعد سعياً للمساواة بين
الرجل والمرأة ولتمكين المرأة من استرداد حقوقها الضائعة بل أصبح عبارة عن تكتلات
عصابية تروج لكراهية الرجل والانعزال التدريجى عنه تحت شعارات الإستقلال والحرية.
حسناً، هل ما
فعلته آفا
فى النهاية كان معبراً عن الأيديولوجية النسوية؟ الإجابة هى نعم بكل تأكيد،
فهى
استخدمت الإغواء الجنسى كسلاح مبدئى لنيل استقلالها، وبعد أن أعطاها هذا
السلاح
بعض القوة للوصول لسلاح آخر إستحدمته فى قتل ناثان ممثل الذكورية
والاستعباد، ولا يمكننا أن نلومها هنا لو تناولنا هذا القتل من منظور رمزى،
حتى ما فعلته
مع كاليب، الرجل الجيد الذى حاول مساعدتها لنيل حريتها وأحبها وبالتأكيد
ليس معنى
انجذابه الجنسى لها أنه كان يريد استخدامها كوعاء، ولكنها فى النهاية غدرت
به
أيضاً، وهذا يذكرنى بمبدأ أحمق تتبناه الحركات النسوية ينص على رفض مساعدة
الرجل
أو تدخله فى الشأن النسوى حتى لو بشكل إيجابى، وهناك مثال واضح على هذا
الأمر
سيعرفه من يتابع الشأن المصرى وقد حدث منذ شهرين عندما أعلن أحد النشطاء
السياسيين
الرجال عن مبادرة لدعم الإناث اللاتى يردن نيل حريتهن فى خلع الحجاب، وجاء
رد فعل
احدى الحركات النسوية تجاه هذا الأمر بالرفض لكون المبادرة أتت من رجل!
آفا فى النهاية يعبر عن نجاح ناثان فى إختراعه الذى أراد به محاكاة تامة لوعى
الإنسان؟، والإجابة سيسهل إستنتاجها مما ذكرناه طوال هذا المقال، والإجابة باختصار
هى لا لم ينجح اختراع ناثان، لأن غريزة البقاء ليست وحدها ما يجعلنا بشراً، ولا الذكاء وحده ما
يجعلنا بشراً، ولا حتى الحرية والاستقلال، بينما هى تنويعة بين عديد من التناقضات،
الحماقات، الأساطير، العاطفة، والأوهام. فالحرية خارج اللُحمة الإنسانية ستؤدى فى
النهاية إلى سجن من نوع آخر، وهو سجن الوحدة والإغتراب، هذان الشعوران هما تماماً
ما شعرت بهما آفا فى آخر لقطة بالفيلم وهى متوقفة وسط طوفان من البشر الذين يسيرون
فى تلاحم وحميمية مع أصدقائهم وأحبائهم وأقربائهم أو حتى يسيرون وحدهم ولكن هناك
من ينتظرهم، أما آفا فهى ليست مثلهم ولن تكون، لذلك وجدناها تنسحب من وسط الجموع سريعاً وبفزع.
والآن بالرجوع للسؤال الذى
وجهته “مورين دوود”” لصانع الفيلم: “من سيقضى على
البشرية أولاً؟”، يمكننا أن نضيف خيارين جديدين، الاول هو النسوية التى تمثلها “دوود”، والثانى
هو ان يفكر الإنسان بطريقة الروبوت. ولعلهم فى الحقيقة خيار واحد يتناغم مع رأى جارلاند بأننا نحن من سنقضى على أنفسنا!
https://m.janatna.com