ومضللة عن مفهوم الحب والعلاقات العاطفية، تلك التهمة كانت حصرية فى الماضى على
الرواية والشعر، إلى أن ظهر ذلك الفن المرئى/الصوتى الإعجازى المسمى
بالسينماتوجراف فى أواخر القرن ال19، ليتلقف الضربات والتهم.
فإذا كنا نتحدث عن التضليل فالسينما هى أكثر الفنون امتلاكاً لأدوات التضليل، إنها
فن الهروب من الواقع بإمتياز، فبمجرد أن تنطفىء أنوار صالات العرض تسحبك معها إلى
عوالمها الأخرى، بقواعدها الجديدة، ولمستويات تفوق غيرها من الوسائط والفنون
الأخرى، لدرجة تجعلك بالفعل تستسلم لما تبثه فى وعيك قبل لا وعيك.
والعلاقات العاطفية هى العنصر شبه الدائم
بالسينما، ما جعل الأفلام تقوم فى الأساس على فكرة الثنائيات، حيث بطل وبطلة. واستغلت
السينما نفوذها الفكرى فى تقديم الصورة المنشودة عن هذا المفهوم الشائك المعروف
بالحب، الصورة التى ترضى أحلام وتطلعات الجموع. فالحب دائما سلوك مُعظّم ومنزه
ومُسَلّم به، وأحياناً يكون هو المعنى والمحور لكل شىء، وإن لم تكن العلاقات
العاطفية هى غاية الأبطال النهائية فهى على الأقل أحد الأصناف الأساسية على
المائدة. وذلك الحب، غالباً، ذو طابع أسطورى مُخلّد، إنه شيئ حقيقي حتى لو
تفرق الأحبة بنهاية الفيلم، فالنهاية السعيدة أو “التبات والنبات” لم
تكن فقط ما يجلّ شأن الحب على الشاشة، ولعل نهاية فيلم مثل “كازابلانكا”
هى أوضح نموذج على ذلك. فالغاية الكبرى هى تقديم الصورة الحالمة والمسحة الأسطورية
التى تجعل المتفرج يخرج وهو يحلم بأن يحيا إحدى قصص الحب العظيمة والبراقة التى
تبيعها له السينما كأمل مخدّر يجعل الحياة أكثر تحمُلاً.
الرؤية الخادعة محاولاً تقديم رؤى أكثر موضوعية ونقدية للحب والعلاقات، وإن على
إستحياء. وأميل إلى كون إرهاصة هذه المقاومة كانت مبكرة وتحديداً فى فيلم Sherlock Junior
لباستر كيتون عام 1924، فمشهد الفيلم الأخير الذى يجمع البطل وحبيبته داخل غرفة
البث فى قاعة السينما، وهما يتابعان فيلماً رومانسياً ويقلدان ما يفعلاه الحبيبان
على الشاشة من مسك أيدى وتقبيل، إلى أن ينقلب فجأة الفيلم الذى يشاهدانه ليأخذ
منحى واقعى، فالحبيبان على الشاشة يتزوجان ونرى الزوجة وهى تمارس الأعمال المنزلية
المملة وقد أصبح جسدها أكثر سمنة وشكلها أقل جمالاً، بينما الزوج مشغول بأهوال
رعاية الأطفال. يُصدم كيتون مما يراه على الشاشة ويتوقف عن التقليد، لأن البداية
الرومانسية تتحول إلى كابوس إجتماعى بفعل الزمن والواقع. تلك المحاولة لنقض الفكرة
الرومانسية فى السينما، تذكرنى بالمقولة الشهيرة “أنا لا أريد من الحب سوى
البدايات”.
الماضى بفيلم Annie Hall، تحفة “وودى آلن” وفيلم العلاقات الأشهر
الذى ينتهى نهاية شديدة العبثية يلخص فيها آلن رؤيته المثيرة عن الحب فى نكتة على
لسان “ألفى” بعد نهاية قصة حبه الملحمية مع “آنى”، والنكتة عن
ذلك الشخص الذى يذهب للطبيب النفسى ليخبره بأن أخاه مجنون، فهو يظن نفسه دجاجة!
يطلب منه الطبيب أن يحضر له أخاه كى يفحصه، فيجاوبه: “كنت لأفعل ذلك ولكنى
أحتاج البيض”. تنتهى النكتة ليضيف “ألفى” أن هذا ما يتفق مع رأيه
فى الحب، إنه فعل عبثى مجنون وغير عقلانى ولكننا نسعى نحوه لأن معظمنا بحاجة
للبيض. قبل هذه النهاية يقرر ألفى إنهاء المسرحية التى يؤلفها بنهاية سعيدة يتحدى
فيها الحبيبان الصعاب ويقرران البقاء سوياً، ويعلق ألفى على هذه النهاية قائلاً
“أحاول أن أجعل الأمور تسير بصورة مثالية من خلال الفن، لأن ذلك مستحيل فى
الواقع”.
والمحطة الثالثة كانت فيلم 500 Days of Summer، أحد أفلام الألفية
الأكثر انتشارا بين الشباب والمراهقين، وهو عن قصة الحب الصادمة بين الثنائى
“طوم” و”سمر”، والتى تبدأ بغرابة وتنتهى بصورة لا تقل فى
عبثيتها عن نهاية Annie Hall، فـ”طوم” الذى يعمل بمؤسسة لإنتاج بطاقات
المعايدة، تلك الأوراق المدونة بمقولات الحب والغزل ويتهادى بها الناس، فى أحد
مشاهد الفيلم يثور على رؤساءه فى العمل، متأثراً بجراحه التى سببها فراق
“سمر” له وقد فقد إيمانه بوظيفته وبمفهوم الحب كليةً، يقول: “أليس
الحب عظيم؟ ماذا تعنى تلك الجملة على أى حال؟! ماذا تعنى كلمة “حب”؟ هل
تعلم؟ هل هناك أحد يعلم؟ إنها تلك البطاقات، والأفلام، وأغانى البوب، تلك الأشياء
هى المسئولة عن كل الكذب والألم الذى نعيشه .. تلك القلوب المحطمة. ونحن مسئولون.
وأنا مسئول.”
ما جمع الثلاثة أفلام السابقة ليس فقط هدمها
للفكرة الرومانسية واتفاقها على تقديم الحب كشعور عارض لا يبقى وبذلك فهو
يفقد معناه، بل كونها أيضاً قد نسبت مبعث تلك الفكرة الحالمة عنه إلى
الفنون وخاصة
السينما، فالفنون/السينما فى هذه الأفلام كانت هى مصدر إيهام البشر بالفكرة
الرومانسية
وأيضا الوسيلة للتطهر منها، وهى إشارة إلى أنها ستبقى معملاً
للبحث والتنقيب داخل نفوسنا ومشاعرنا واحتياجاتنا من أجل تفكيكها وهدم ما
نعتقده من
الثوابت. وقد كان عام 2015 عاماً حافلاً بالمحاولات السينمائية التى تسعى
لتفكيك
الرومانسية ومفهوم العلاقات، حيث صدرت أربعة أفلام دفعة واحدة تدور حول
وتتلامس مع
تلك القضية.
كرولى، والمرشح لثلاث جوائز أوسكار من بينها جائزة أفضل فيلم. “بروكلين”
يروى قصة الفتاة الأيرلندية “ايليش” التى تترك بلدتها الصغيرة وتهاجر
للعمل والحياة بنيويورك فى خمسينيات القرن الماضى، وهناك تجد صعوبة فى التأقلم،
وتجتاحها مشاعر الوحشة والوحدة والحنين لوطنها وأهلها، حتى تتعرف على
“طونى” فى إحدى حفلات الرقص، الشاب اللطيف من الطبقة العاملة والذى يقع
فى غرامها من اللقاء الأول، وتتوالى بينهما المواعدات إلى أن يصرح لها فى أحد
المشاهد بحبه على الطريقة الكلاسيكية، لكن تكون الصدمة حين لا ترد عليه
“ايليش” فوراً بالرد التقليدى “أنا أيضاً أحبك”! لا شك أن
أيليش كانت معجبة بالفتى، لكن هل هى تحبه؟ ذلك السؤال الذى تتوه الإجابة عنه بين
سطور الفيلم، ويأخذنا لسؤال “طوم” السابق، “ماذا تعنى كلمة حب على
أى الأحوال؟!”
كانت أيليش تعانى منذ بداية الفيلم من قلة
ثقة بنفسها، فهى دائماً ما تُرفَض فى حفلات الرقص، سواء فى بروكلين أو فى بلدتها
الأصلية بأيرلندا، لم تجرب إنجذاب الفتية لها، كما انها الآن فى بروكلين تعتصرها
آلام الوحدة والحنين للوطن، فضلا عن شقاء العمل والإغتراب ومضايقات زميلاتها فى
السكن. لقد كان طونى بمثابة طوق النجاة لها، الونس فى الوحدة، النور فى العتمة،
الأمل ساعة اليأس، والدعم وقت الضعف. لكن هل هذا هو الحب؟ فى المواعدة التالية
تخبره أيليش بأنها قد فكرت فى تصريحه لها بالحب وأنها تعتقد أنها تبادله نفس
المشاعر واعدةً إياه فى المرة القادمة التى يخبرها بأنه يحبها سوف تجيبه فورياً أنها
أيضاً تحبه!
وما سبق يشوبه نوع من اللا معقولية، فالحب – إن
وُجَد – لا يحتاج لكل هذه المباحثات والحسابات من أجل التعبير عنه، إنه إما موجود
أو لا. لكن ما بطن من هذا التتابع من الفيلم يشير إلى جانب نفعى فى شخصية أيليش، نابع من الحيرة التى لا تخلو من بعض الخبث.
هذا الجانب النفعى يتضح أكثر مع التتابع
التالى والذى يدور فى البلدة الأيرلندية الصغيرة، حيث تعود أيليش للوطن فى زيارة
قصيرة لتأبين أختها المتوفية، وهناك تتعرف على شاب آخر، هذه المرة شديد الثراء
والوسامة، ويقع فى غرامها، واعداً إياها بمستقبل رغد إن وافقت على الزواج منه، ثم نجدها
تنجرف بالفعل فى تلك العلاقة المغرية، ناسية تماماً عهدها مع طونى فى بروكلين خاصة
وأنهما قد تزوجا بالفعل قبل سفرها، وكانت لتهمل تلك الزيجة التى تفصلها المحيطات
وتكمل خطتها الجديدة مع الشاب الجديد لولا أن كُشِفَ سر زواجها بالبلدة عن طريق
المصادفة، ففسدت خطتها الناشئة رغماً عنها.
الإختيارات هى تيمة الفيلم الرئيسية،
المعادلة المعقدة بين من تحب وأين تعيش، وقد تعمدْتُ استخدام كلمتى
“إختيارات” و”معادلة” لأن الأمر فى حقيقته كان حسابياً،
عقلانياً، نفعياً بصورة بحتة، وإن غلّف إطاره طبقة زائفة من العاطفة والرومانسية.
فأيليش لم تعشق قط .. فقط عُشقت من رجلين، وأخذت تبدل بينهما بصورة روبوتية
وكأنهما فساتين للإرتداء. يأخذنا هذا إلى سؤال أخطر وهو هل تعشق الأنثى من الأساس
أم ان هذا الشعور ذكورى حصراً.
حسناً، أيليش هى نموذج رائع للأنثى ككائن
شديد الغموض والتعقيد مقارنة بالرجل، فإذا كانت الاحصائيات والدراسات تشير إلى أن النساء
تُقدِم على تزييف وإفتعال نشوة الجماع وبنسب تصل لـ80%، فهذا يعنى أنه من السهل
جدا أن تقمن بتزييف وإفتعال ما هو بالأصل أكثر استتارة وأقل فيزيائية من النشوة ..
شىء كالمشاعر مثلاً! وهو ليس تزييفاً مُتعمداً فى رأيى بقدر ما هو الإستيهام self delusion؛ نتيجة لعدم فهم الأنثى لنفسها وماذا تريد فى المقام الأول. إنها أكثر
غموضاً حتى على نفسها؛ وسر حيرتها يكمن فى أن الخيارات دائماً وكلها لديها، فهى من
تتحكم وتقود حقاً، حتى وإن أوهمت الرجال بعكس ذلك! جسّدت أيليش الأنثى ككائن يحتاج
أكثر مما يحب، وعلى عكس ما تجرى المقولة “الوطن يكون حيث يوجد القلب”
فقد عبرت اختيارات وتفضيلات وتخبطات أيليش على مدار الفيلم عن أن القلب يسهل
توجيهه حيث يوجد الوطن، أو لنقل حيث توجد المنفعة.
الأنثى المظلم فيما يتعلق بمعادلات الحب والعلاقات، فإن فيلم Anomalisa للمخرج والسيناريست
الإستثنائى تشارلى كوفمان والمرشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم تحريك، يقدم جانباً
مظلما آخر ولكن هذه المرة للرجل. الفيلم يدور حول شخصية “مايكل ستون”
المُنظّر والمُحاضر فى مجال تدريب موظفين خدمة العملاء بالشركات، والذى يسافر
لإحدى المدن البعيدة فى الولايات لإلقاء احدى محاضراته. مايكل يعانى خليط من
الوحدة والفصام وعداء البشر Misanthrope، فضلا عن أزمة منتصف العمر، عبّر عن ذلك كوفمان
بصرياً وصوتياً بأن جعل جميع شخصيات الفيلم لها نفس الصوت والملامح ما عدا مايكل.
فى احدى لقطات الفصل الأول من الفيلم نجد
مايكل ينظر عبر نافذة غرفته مراقباً شخص آخر داخل شقة بالعقار المقابل، حيث يقوم
ذلك الشخص بمشاهدة فيلم جنسى والإستمناء عليه، هذه اللقطة ضاعفت من حجم الشعور
بديستوبيا هذا العالم وانعدام التواصل والحميمية بين البشر، كما كانت انعكاسا
لمايكل نفسه الذى يجلس هو الآخر فى غرفته وحيداً ومحاصراً بين ألمه وخواءه النفسى
وبين احتياجاته وغرائزه الفسيولوجية، وكأن اللقطة كانت بمثابة إيحاء بأن الإستمناء
هو الخيار الوحيد أمامه بما يكفله من إهانة وعجز، هذا ما يجعله يتصل بحبيبته
السابقة، منذ 10 أعوام مضت، لمقابلتها ومن ثم يعرض عليها الذهاب معه لغرفته
لممارسة الجنس، فترفض وتتشاجر معه لشعورها بالإهانة، حيث أنه لم يعد يجمعهما شىء
كى يمارسا الجنس على أساسه، فهو تركها منذ زمن بعيد وتزوج وأنجب، ولا يبدو وكأنه محتفظ لها
بأى مشاعر، هو يدعوها لممارسة حميمية بلا معنى وكأنها عاهرة؛ لمجرد أنها الأنثى الوحيدة التى يعرفها بالمكان.
هنا
اصطدم مايكل بقوانين عالمه فيما يخص
العلاقات، وتلك القوانين باختصار قائمة على مبدأ “المشاعر مقابل الجنس”
أو “المعنى مقابل الجنس”، وكان هذا الإصطدام هو نقطة الحبكة الأولى فى
الفيلم والتى ستأخذه لشراءه دمية جنسية عن طريق الصدفة. ليصبح الآن أمام
خيار آخر
لقضاء ليلته – بجانب الإستمناء – وهو خيار مضاجعة الدمية الجنسية، لكنه يظل
خياراً
مهيناً وغير مشبع. هنا يتدخل كوفمان ليلعب لعبته بعبقريته المعهودة، فيدخل
بطله فى قصة حب طارئة مع إمرأة تدعى ليزا، جعلها الصوت الوحيد المميز عن
باقى أصوات الشخصيات، وجعل تلك الندبة على وجهها لا تقلل من إعجاب مايكل
بها.
تطورت علاقتهما فى مدة زمنية قياسية لا تزيد عن ساعة من الزمن الفعلى
للأحداث
ودقائق من الزمن السينمائى إلى أن وصلا معاً لقمة التوهج فى مشهد جنسى بديع
قلما
يتكرر فى السينما بهذا الصدق والشاعرية، ثم فى الصباح تلاشى انبهاره بها
تدريجياً وانفصلا بنفس السرعة التى ارتبطا بها.
ما
الذى حدث؟ لم يعد مايكل بحاجة لتقنيع
غرائزه البدائية بادعائات عاطفية مزيفة، هو لم يكن يريد سوى الاشباع الجنسى
وتخفيف
ألم الوحدة، ولكنه اضطر لإختلاق أو إستيهام معنى من وراء وجوده مع ليزا،
معنى
كالحب، الحب هنا وإن كان وهماً فهو يظل الملجأ من خيارات ومشاعر أكثر
احباطاً، فضلا عو كونه الضريبة التى عليك دفعها لمجاراة قواعد المجتمع
الجنسية، ومن
آثاره أنه يجعلنا نرى من نعتقد أننا نحبهم بصورة رائعة وفريدة من نوعها
(صوت ليزا
المميز) ونغض الطرف عن العوار والقبح البادى عياناً بياناً عليهم (الندبة
على وجه
ليزا) فالحب أعمى كما يقولون.
لكن ما هو مرعب حقاً كان تساؤل طفل مايكل فى نهاية
الفيلم عن ذلك السائل الموجود بالدمية، قبل أن تضيف زوجته بأنه يشبه السائل
المنوى. بعدها نسمع صوت الدمية الجنسية تغنى بنفس صوت ليزا، ما يأخذنا إلى أن ليزا ليس لها وجود، لقد
كانت مجرد وهم أو حلم أو فانتازيا جنسية بعقل مايكل، وأن من شاركه الفراش ليلتها حقاً لم
تكن سوى الدمية الجنسية! وهذا المنحى الصادم كان إمعاناً فى الترميز عن الحب نفسه
كوهم لا وجود له، وعن أن الحقيقة لا تحتوى سوى على الهرمونات المتمثلة فى سائل
مايكل المنوى على الدمية الجنسية!
هناك جملة مأثورة شهيرة عن العلاقات تذهب
كالتالى: “يتعلم الرجل أن يحب الأنثى التى انجذب [جنسيا] إليها، بينما تتعلم
الأنثى أن تنجذب[جنسياً] للرجل الذى تحبه”. أعتقد أن الجملة تعبر تماماً مع ما
خلصنا إليه فى فيلمى “بروكلين” و”أنوماليزا”، فقط مع تعديل
نصف المقولة الأخير لتصبح “… تتعلم الأنثى أن تنجذب للرجل الذى
تحتاجه”.
The Danish Girl للمخرج البريطانى “توم هوبر”، عن القصة
الحقيقية للرسام الدنماركى “إينار فيجنر” الذى أقدم على إجراء أول عملية
تحوّل جنسى فى التاريخ كى يصبح الأنثى “ليلى بيبى”، وبغض النظر عن
المستوى الفنى لهذا الفيلم الذى خيّب التوقعات، إللا أننى أرى فكرته العامة مازالت
تطرح تساؤل شديد العمق والخطورة، وهو هل الجنسانية هى جوهر العلاقات؟ ذلك نبع
تلقائياً من كون إينار/ليلى بالفعل متزوج/ة من امرأة هى “جريدا”،
وتجمعهما علاقة شديدة الخصوصية. والتحدى الذى تواجهه “جريدا” لا يقل
صعوبة عن تحدى إينار.
أعلم بأن مطلب أن تضع نفسك مكان الشخصية يبدو
صبيانياً ولكنها من الحالات النادرة التى يجب فعلا أن تضع نفسك مكان الشخصية، وهنا
أقصد شخصية جريدا الزوجة. لتتخيل، ولو نظرياً، أنك استيقظت يوماً لتفاجأ بأن شريك
حياتك قرر تغيير هويته الجنسية؟ إنه نفس الشخص الذى كنت تقول أنك تحبه، بنفس هيئته
وأفكاره ومشاعره، ومازالت تجمع بينكما نفس التفضيلات والذكريات والأحلام والتوافق، إن كان هذا فعلا يصنع الحب!
لم يتغير سوى شكل عضو ما فى جسده، بالطبع كنت ستظل تشاركه حياتك لو كان استأصل
اللوز أو احدى الكليتين أو بعض الضروس، أما أن يكون هذا العضو جنسياً فالأمر مختلف
ويجعلك تفكر، وقد يدحض ما كنت تظن أنك تكنه من مشاعر حب غير مشروطة وأبدية، ويهز
الرغبة العارمة بالارتباط أو يذهب بها إلى الجحيم.
هل يوجد أقوى من هذا الإختبار دليلاً
على أن فرويد وداروين كانوا على حق عندما ذهبوا إلى أن الجنسانية هى الأساس لكل
شىء؟! الخطير أن ذلك يؤكد رؤية تشارلى كوفمان السوداوية التى طرحناها سلفاً فى
حديثنا عن Anomalisa، وهى أننا لسنا سوى حيوانات استطاعت وضع تسميات حضارية
لغرائزها البدائية.
انتشر بالعام الماضى شعار “الحب ينتصر Love Wins” تزامناً مع نجاح
حملات المثليين فى أمريكا بانتزاع حقهم المدنى فى الزواج، هذا الشعار نال كثيرا من
السخرية والاستهزاء من قبل المصابين برهاب المثلية، والشعار، فى رأيى ومن زاوية
أخرى، يعد بالفعل ملتبساً، خاصة وهو يبالغ فى الإعلاء من شأن العلاقات
المثلية ويحصر الحب بداخلها، بينما الطبيعى أن ينجذب الشخص المُثلى لمثيله الجنسي،
لا توجد هنا فضيلة أو بطولة، إنما البطولة والإختبار الحقيقى يكمن فى موقف
“جريدا”، أى الشخصية المُغايرة hetero
التى تحارب للحفاظ على حبها من شخصية متحولة جنسياً؛ لذا فإنى أؤمن بأن فيلم هوبر نجح فى القيام
بأول شرح وتجسيد عملى حقيقى لشعار “الحب ينتصر”، وإن كان حتى على هيئة
سؤال لا تقرير.
للمخرج اليونانى يورجوس لانتيموس، الفائز بجائزة لجنة التحكيم بالنسخة الأخيرة من
مهرجان كان. هذا الفيلم يتناول العلاقات العاطفية من زاويتها الإجتماعية، وذلك فى
إطار يخلط بين الفانتازيا والديستوبيا، فالأحداث تدور فى ذلك العالم الذى يضطهد
العُزاب بأن يلقى بهم داخل مؤسسة أشبه بسجن لتضعهم تحت اختبار مدته 45 يوماً، إذا
لم يعثر خلالها كل عازب على رفيق حياة مناسب يتطابق مع صفاته فإنه سوف يعاقب
بتحويل جسده إلى جسد حيوان يختاره، وهو ما يجعل هؤلاء العزاب يبذلون كل ما بوسعهم
للنجاة بالبحث عن شريك، مهما كلفهم ذلك من غش وكذب ونفاق ودسائس.
نخرج من النصف الأول من الفيلم بوجهة نظر
تبدو معادية لمفهوم العلاقات من الأساس، إلى أن ننتقل إلى عالم آخر فى النصف
الثانى من الفيلم، ويكون هذا العالم مناهض ومناقض تماماً للعالم الأول، ففى العالم
الثانى العلاقات مُجرمة، الغزل ممنوع، المشاعر محرمة، وحتى الموسيقى ليس مسموح
منها سوى النوع الإليكترونى الراقص لأنه الوحيد الذى لا يهيّج المشاعر. ولهذا
العالم أيضاً عقوباته الصارمة على من يخرج عن قوانينه. وهنا ندرك أن مغزى الفيلم
ليس إدانة مفهوم العلاقات أو عدمه، بل إدانة القواعد والضغوط والأحكام التى يفرضها
المجتمع على أفراده، فلم يكن هذان العالمان سوى تمثيل كاريكاتورى لنظامين
إجتماعيين فعليين، الأول نلمسه فى الإتجاه المحافظ التقليدى الذى يقدس التجانس والترابط
ويُعلى من شأن المجتمع على حساب الفرد، أما الآخر فهو خليط بين إتجاهات التزمت
الدينى والرهبنة والحركات النسوية المتطرفة التى تعادى مفاهيم كالعاطفة والعلاقات.
لم يجد بطل الفيلم “ديفيد” الحب
داخل العالم الذى يفرضه، بينما وجده حين هرب إلى العالم الذى يجرمه، فى مفارقة
تدلل على عداء الإنسان مع القيود الخارجية. لكن الأعمق كان التحول لتناول قيوده
الداخلية، أو ما ترسب فى لا وعيه من أفكار ومعتقدات ورثها من العوالم المحيطة به ومازالت
تسيّره ولم يتحرر منها بعد. فعندما يقع ديفيد فى غرام الشخصية التى جسدتها
“راشيل ويز” نجده مازال مهتماً بتحديد الصفة المشتركة بينهما والتى كانت
قصر النظر، وكأن ذلك له معنى! رغم أن مشاعره سبقت إدراكه لهذه المعلومة من الأساس،
ولكن قواعد وأساطير المجتمع مازالت تحتل وجدانه، وأجدنى هنا تحديداً أمام إسقاط لأسطورة
“توأم الروح Soul Mate”، القائمة على مبدأ التطابق فى الصفات بين طرفى
العلاقة، والتى يؤمن بها الكثير من البشر وتكون أحياناً سبب فى نشأة علاقات أو
انتهائها، رغم أن التطابق ليس من الضرورى أن يكون قرينة للحكم على نجاح علاقة أو
فشلها، فقد وزّع علم الأحياء الحب على ثلاثة مكونات: شهوة وإنجذاب وارتباط. بينما
وزعه علم النفس إلى: حميمية، وتكريس، ووله.
الستة
مكونات السابقة لم يذكر “التطابق” بينهم، بل هى تنطبق كلها على ما عايشه
ديفيد مع راشيل فى بداية علاقتهما قبل أن يهددها هوس التطابق، خاصة بعد أن
فقدت راشيل
بصرها تماماً وأصبحت عمياء، أى ضاعت الصفة المشتركة التى ظنا بأنها أساس
علاقتهما،
ما جعل ديفيد يقدم على إعماء نفسه هو الآخر فقط ليُرضى صنم التوافق
المزعوم، لم
يطلعنا لانتيموس على ما انتهى إليه مصير ديفيد، لكنه أعطانا إيحاء ذكى عن
طريق تسويد الشاشة لبعض الثوانى قبل ظهور التيترات، وهو إيحاء له تفسير
وأيضاً له مغزى،
يكمل كلاهما الآخر. والتفسير هو أن ديفيد قد أعمى نفسه بالفعل ليصبح العالم
الذى
يتشاركه الثنائى مجرد ظلام فى ظلام، وقد عبرت الشاشة السوداء عن هذا
المعنى. أما المغزى
فهو أن العالم الذى ينتظرنا نحن البشر حين نتبع قوانين وقواعد تتنافى مع
رغباتنا
ومشاعرنا هو عالم عبثى، عدمى، سوداوى، كئيب .. تنتصر فيه القيود والنظريات
الجوفاء على
الإنسان وسعادته التى هى الغاية الحقيقية لحياته.
https://m.janatna.com