*يحتوي على حرق لأحداث الفيلم*
الكوميدية يتعجب “جورج كارلين” من السبب الذي يجعلنا دائما نتناول قضية
المناخ بشكل يوحي أن كوكبنا مُهدد وأننا المنقذون:
“(..) هذا الكوكب موجود منذ 4.5 مليار سنة، شهد فيها حوادث عدة أسوأ بكثير منا نحن البشر في
المئتي سنة الأخيرة التي دخلنا فيها عصر الصناعة… زلازل، براكين، تحولات في
الغلاف الصخري، انجرافات قارية، انفجارات شمسية، آلاف السنين من الصدامات مع الشهب
والنيازك، فيضانات، حرائق، تجريف، عصور جليدية .. ثم نأتي نحن الآن بمنتهى الصلف لندعي
أن مخلفاتنا من الأكياس البلاستيكية وصفائح
الألومنيوم تُمثل أية فارق بالنسبة للكوكب؟! إن الكوكب على ما يرام .. نحن البشر الذين أصبحنا في ورطة، الكوكب لن يذهب لأي
مكان آخر، وسوف يُنظف ويعالج من نفسه تلقائيا ويبقى لوقت طويل للغاية، نحن من سوف
نذهب بلا رجعة.”
والمؤلف الأميركي المثير للجدل “دارين أرونوفسكي” الرؤية السابقة مع
كارلين في فيلمه الأحدث Mother!
ولكن بنبرة فائقة السوداوية، ذلك الفيلم الذي يزدري المسيرة البشرية (التاريخ والميثولوجيا) منذ مهدها بجريمة
القتل الأولى المذكورة في القصة التوراتية عن قابيل وهابيل، مرورا بحادثة طوفان
النبي نوح الذي سبق وقدمها أرونوفسكي في فيلمه السابق Noah عام 2014، برؤية معاصرة منزوعة القداسة أثارت غضب الكثيرين،
ويعود للتلميح بها من جديد في “أم” في مشهد يتسبب فيه ضيوف المنزل بعنادهم
في انفجار ماسورة مياه كادت تغرق المنزل، لولا تدخلت الطبيعة “الأم” (جينيفر
لورانس) لتنقذ الموقف وتصلح وتعالج من نفسها تلقائيا كما حدثنا كارلين، فتعطي فرصة
أخرى للمسيرة الإنسانية المزدراة في الفيلم بأسلوب رمزي مكثف الوضوح.
ولكن
الأخيرة
تتمادى في سلوكياتها الحمقاء. الحماقة التي تبدأ مع “إد هاريس”، الذي يرمز
لشخصية “آدم” أبو البشر، عندما يخالف تعليمات الأم بعدم إشعال السجائر داخل
المنزل، ثم “ميشيل فايفر”، وهي ترمز لحواء، باقتحامها الغرفة المُحرم
دخولها.
الوصول ليومنا الحاضر، نسمع الغوغاء أثناء اقتحامهم للمنزل يرددون هتاف ثورات الربيع العربي التي ينظر لها الفيلم كفعل فوضوي، وفصل
جديد من تاريخ ملوّث ومن ممارسات سيئة تهدد استمرار البشر على الأرض كالحروب
والإبادات الجماعية وأزمات اللاجئين والمجاعات والزيادة السكانية المجنونة، والتطرف
الديني الذي رمز له الفيلم بهوس المعجبين تجاه شاعرهم المفضل (خافيير بارديم) بعد
أن انتهى الأخير من كتابة قصيدة شعرية يرمز لها الفيلم بكتب الديانات الإبراهيمية
وما سببته من صراعات وفِتن وحروب بين أتباعها.
والهمّ الرئيسي الذي يؤرق أرونوفسكي فهو تعدي الإنسان على الطبيعة (الأم)، حتى أنه
يظهر في بعض المشاهد شخص يتحرش جنسيا بالشخصية التي تلعبها “جينيفر
لورانس” (الأم). وكلها تراكمات أدت في النهاية لتتابع سينمائي مُفزع يحدث في
النصف ساعة الأخيرة من الفيلم، تصل فيه الطبيعة الأم لنقطة التمرد، والخاسر
والفاني الوحيد من ذلك لم يكن سوى الإنسان. أما المنزل (رمز الكوكب) والأم (رمز
الطبيعة) فهما في حالة عَودٍ أبدي.
تلك
الرموز ليست من استنتاج كاتب السطور، بل صرّح بها أرونوفسكي علانية في أحد
البيانات التي ألقاها قبل العرض الأول لفيلمه بمهرجان “فينيسيا” مطلع
سبتمبر الماضي.
في الحكي كانت تستخدم قديما بهدف رئيسي وهو الهروب من السلطات الرقابية،
والآن في عصر تلاشي معظم السلطات الرقابية على الفن أصبحت تستخدم كوسيلة
إبداعية لرؤية الأمور من زوايا إدراكية مختلفة، تُبسّط وتجرد القضايا
الخلافية لإعطاء المتلقي فرصة أفضل للحكم. بجانب أن الرمزية في ذاتها هي
نوعٌ من اللعب، وهي تحدي من المبدع للمتلقي، ودعوة مثيرة من الأول كي يصحبه
الثاني في رحلة داخل أغوار عقله. والذي يدور في عقل أرونوفسكي هنا مثير
بالفعل، ويستحق عناء الرحلة وإرهاقها النفسي.
أفلام
عديدة ناقشت القضية المناخية والطبيعية، لكن طزاجة الرؤية التي يقدمها
أرونوفسكي هنا
تكمن في لا اكتراثيته، حيث النظر للشأن الإنساني من منظور ما بعد إنساني،
وهو مُنزّه
عن النرجسية التي انتقدها كارلين فيمن يسمون أنفسهم بنشطاء الطبيعة، فهو
يتناول المسيرة البشرية كحادثة عارضة (سيئة بالتأكيد) من تاريخ كوني ممتد.
“أم”
ليس فيلما عدميا لكنه فيلم لمبدع وصلت حالة الغضب عنده لنقطة اليأس القصوى،
وأدرك أنه قد فات أوان التحذير. أرونوفسكي هنا ليس منقذا بل مجرد شاهد على
الفاجعة التي تنتظرنا.
بشريط
صوت يخلو من موسيقى تصويرية، وبتعتيم للزمن الذي تدور به الأحداث، حيث
اقتصار وسائل الاتصالات على هاتف منزلي، وتتعطل الهواتف الخلوية، لا ذكر
لوجود الهواتف الذكية أو الإنترنت، ولم يطلعنا الفيلم على الوسيلة التي
أرسل من خلالها الزوج قصيدته للناشرة وسرعة الاستجابة الفائقة، هو يهرب من
إعطاء إشارات تدل بدقة عن الحقبة الزمنية التي يعيشها الأبطال، وهو المطلوب
من فيلم يستهدف الزمن بأكمله مختزلا في تلك الكبسولة السينمائية التي تلخص
التاريخ نفسه. وبنفس المنهجية يقوم الفيلم بالتعتيم على أسماء الشخصيات
فلا يُشار لهم إلا بالضمائر، فهم يمثلون ما هو أشمل من أنفسهم.
يقدم
أرونوفسكي ساعة أولى من
الفيلم بتكوينات مسرحية مرتبة وأنيقة، تنساب في أرجاء المنزل بجمال يصاحبه
التوتر،
ساعد في ذلك انضباط وتألق الكاست التمثيلي بأكمله. والساعة الأخرى هي كابوس
مكتمل
الأركان. ليست أحداث الفيلم وحدها هي ما يزداد حدة بمُعدل جنوني، أيضا
تفاصيل الأنوثة لدى “جينيفر لورانس” وجمال مفاتنها يبرز كلما سار الفيلم
نحو نقطة النهاية (تطلب منها إحدى الشخصيات بخبث وغيرة أن تغطي صدرها
العاري في أحد المشاهد)، وكأن إبراز الأم لجمالها هو أحد الآليات الدفاعية
الاستعطافية من الطبيعة ضد المنتهكين؛ لتذكرهم بمزاياها التي هم مقبلون على
دحرها، ولتذكير الزوج بكونها مازالت قادرة على العطاء، وأنه ليس بحاجة
لإشباع غروره بنيل إعجاب مجموعة من الغرباء المزعجين، فهي أفضل وهي تكفيه.
الكاميرا
تصاحب الأم طوال أحداث الفيلم لنرى كل الأمور بعينها، نرى كل
اللامعنى، وكل اللامنطق الذي يُمارس ضدها؛ كي لا نلوم ردة فعلها النهائية،
أو حتى نعيب
على الطبقة القشرية من قصة الفيلم (حكاية الزوج والزوجة) هشاشتها وغرابة
الدوافع لدى شخصياتها واتسامها باللامعقولية إلا بعد إدراك ماوراءها من
رموز. فالعبث واللامعنى
بالطبقة القشرية من هذه القصة لا يمكن فصله بأي حال عن القصة بعمقها
ورمزياتها، هما
كيانٌ واحد، وما العالم السطحي من تلك القصة، وأي قصة، بل ومجمل حياتنا
اليومية التي
تُلهم القصص سوى تراكمات من العبث والحماقة التي قامت بتغذية الطبقات
الأعمق في قصة
“أم”.
https://m.janatna.com