خلال شهري مايو و يونيو ، ربما كان الخبر العلمي الأكثر
إنتشاراً بين الناس يتعلق بأن وكالة الفضاء والطيران الأمريكية ( ناسا ) قد
تمكنت من إكتشاف وجود كون آخر موازٍ للكون الذي نعيش فيه ، لكن الزمن به
يرجع للخلف ، إجتاح الخبر وسائل التواصل الإجتماعي العربية والعالمية ، ما
قسم المتناقشين حوله إلي مجموعتين ، الأولي تصدق الخبر بشكل كامل ،
والثانية ترفض الفكرة نفسها في المطلق وتتصور أنها مجرد أحلام .
كان الخبر بالفعل مبالغاً فيه ، فقد بني نفسه علي نتائج أخيرة جاءت من ” أنيتا ” (ANITA) ، وهي تجربة ذكية تهدف لإستخدام قارة أنتارتيكا
بالكامل كمعمل ، حيث من المفترض أن تتفاعل النيوترينونات الكونية عالية
الطاقة مع الغطاء الجليدي الضخم للقارة ، ما يتسبب في إنعكاس نمط محدد من
النبضات الراديوية التي يمكن أن تلتقطها الهوائيات المعلقة في بالون من
الهيليوم يحلق علي إرتفاع نحو 37 كيلومترا في سماء القارة المتجمدة .
”
النيوترينو ” هو جسيم دون ذري صغير جداً لدرجة أن تريليون جسيم منه سوف
يمر عبر أحد أصابعك خلال الثانية الواحدة ، لكن هذا الجسيم ضعيف التفاعل
بشكل يجعل ” نيوترينو ” واحد فقط يمكن أن يتفاعل مع جسدك خلال عمرك كله ،
إنها جسيمات بلا شحنة ولا تحمل تقريباً أي كتلة ، لهذا السبب كان الإمساك
بالنيوترينو دائما أشبه بأن تمسك بالأشباح ، وتطلب الأمر دائماً حيلاً ذكية
مثل ” أنيتا ” للإمساك بالنوع عالي الطاقة منها .
![]() |
اكتشاف كون اخر موازى لكوننا |
في
العام 2018 م بدأت التجربة ” أنيتا ” في تلقي إشارات راديوية شاذة عن
المتوقع منها ، بدت وكأنها حدثت بسبب جسيمات مرت عبر الأرض إلي القارة
الجنوبية ثم إلي أنيتا ، وليست منعكسة من الغلاف الجليدي للقارة القطبية
الجنوبية ، فتح ذلك الباب لمجموعة من التأويلات التي تتضمن القول إن ذلك
فقط متعلق بطبيعة الجليد نفسه في القارة القطبية الجنوبية ، لكن البعض أشار إلي أن ذلك قد يكون دليلا علي شئ آخر يقع في أبعد جوانب خيالاتنا .
في
تلك النقطة تدخل فرضية تتصدرها ورقة بحثية صدرت في الوقت نفسه تقريباً ،
تقترح تلك الفرضية أن الكون الذي نعرفه أشبه ما يكون بصورة مرآة لكون آخر ،
وكلا الكونين بدأ من النقطة نفسها ، وهي الإنفجار العظيم .
لفهم
الأمر دعنا نبدأ من النموذج الأكثر قبولاً لعلم الكونيات حالياً ، (يسمي
إختصاراً نموذج ” لامبدا – سي دي إم ” والذي يفترض أن كوننا بدأ من
الإنفجار العظيم ، نحن نلاحظ ذلك حينما ننظر إلي الكون فنري أنه يتوسع
بمعدلات متسارعة ، بالتالي لو تخيلنا أن الكون فيلم يعرض الأن وأردنا إعادة
المشاهد للخلف مدة نحو 13.8 مليار سنة فإن هذا التمدد سينعكس لنصل إلي
نقطة واحدة يبدأ منها الكون كله .
لا
نعرف بعد الكثير عن هذه النقطة ، ولا يمكننا رصد أي شئ حدث خلالها أو خلال
الأربعمائة سنة الأولي من تاريخ الكون ، حيث كان معتماً لا يمرر أي ضوء ،
وما إن تكونت الذرات الكونية الأولي حتي إنطلق أول فوتونات الضوء ، لكننا
فقط نفترض وجودها بناء علي الكثير من الدلائل الدامغة .
يجب
أن نوضح أن المشكلة ليست في فرضية إرتباط نتائج تجارب أنيتا بالكون
المعكوس ، بل في الحديث عن أن نتائجها هي تأكيد أو حتي إشارة إلي وجود هذا
الكون المعكوس ، بينما هي في أقصاها مجرد تخمين ، وحتي مع إكتشافنا لتلك
الجسيمات يبقي تخمينا ، لأنها يمكن أن تشير أيضاً إلي أشياء أخري .
إلا
أن فرضية وجود كون معاكس لكوننا الذي نعيش فيه قائمة بالفعل ، بل وكان
فريق بحثي من جامعة أوكسفورد قد أشار قبل عدة أعوام إلي فرضية شبيهة ، في
دراسة نشرت بدورية “Physics Letters” تقول إن الإنفجار العظيم لم يكن ،
بالصورة التي نتخيلها ، نقطة البداية لكل من الزمن والمكان ، لكنه كان
اللحظة التي تغير فيها توجه الفضاء .
مثل
سابقه ، هذا النموذج الجديد لا يتجنب الإنفجار العظيم ، بل يواصل حلوله
مباشرة من خلال الإنفجار العظيم إلي ما حدث قبله ، بالتالي لا يقدم أي
مبادئ جديدة ، ولا يقدم أي تعديلات علي نظرية أينشتاين للنسبية العامة التي
تشرح تطور الكون بدقة ، ويبني نفسه فقط ، مثل سابقه أيضاً علي مشكلة يكون
هو حلها ، هذه المرة تسمي بمشكلة الأفق ( Horizon Problem ) .
حيث نعرف أنه في وقت
مبكر للغاية من تاريخ الكون كانت سرعة التمدد الكوني أكبر من سرعة الضوء ،
ما يعني أن هناك جسيمات أولية ظهرت بعد الإنفجار العظيم مباشرة لكن لم
تتسنَّ لها الفرصة لتلتقي ببعضها بعضاً أبداً ، لفهم ذلك تخيل أن لدينا كوب
ماء ساخن وكوب ماء بارد قمنا بإبعادهما عن بعضهما البعض فور تكونهما ، هنا
سيظل أحدهما بارداً والآخر ساخناً لفترة ، لكن حينما نتركهما بعض الوقت
ملتصقين ثم ننقلهما إلي اليمين واليسار ، فإن كلاً منهما سيكون بدرجة
الحرارة نفسها تقريباً .
هنا
تظهر مشكلة الأفق ، حيث من المفترض للجسيمات التي إنفصلت سريعاً في بداية
الكون أن تختلف في صفاتها عن بعضها بعضاً ، لكن أثر ذلك لا يظهر في الكون
الذي نراه أمامنا ، فهو متجانس ، أجزاؤه تشبه بعضها بعضاً في كل الإتجاهات ،
هنا يظهر السؤال الرئيسي : ما الذي جعل مناطق من الكون لم تتصل ببعضها
بعضاً أبدا متجانسة بهذا الشكل ؟
في
تلك النقطة يظهر طريقان للإجابة ، الأول له علاقة بفيزياء ما بعد الإنفجار
العظيم ، يتصور هذا الحل أن شيئاً ما حدث في اللحظات الأولي من عمر الكون ،
وتسبب في هذا الإتصال المستحيل ، ربما كان الفضاء نفسه مختلفاً عما نعهده
الأن ، وربما كانت سرعة الضوء أكبر ، أما الطريق الثاني فيقول إن كما يبدو
الإنفجار العظيم لم يكن بداية الزمن أصلا بل إمتلكت تلك الجسيمات بشكل ما
وقت ما قبل الإنفجار العظيم لتختلط ببعضها بعضاً ، ثم جاء الإنفجار العظيم
.
كل تلك الفرضيات لم تظهر من فراغ بل هي
حلول لمشكلات قائمة بالفعل في النماذج الحالية التي تشرح الكون ، خذ مثلا
تلك الورقة البحثية التي أثارت الجدل في الوسط البحثي في العام 2017 م
حينما أشارت إلي إمكانية تصادم كون آخر بكوننا في مرحلة مبكرة جداً من
تاريخه ، إعتمدت فرضية تلك الورقة البحثية علي منطقة في إشعاع الخلفية
الميكروي لا يمكن للنماذج الحالية تفسيرها إلا مع فكرة مستعارة من فرضية ”
الأكوان الفقاعة ” التي جاءت نتيجة لفرضية التضخم الدائم ( Eternal
Inflation ) .
• هل هناك أكوان أخري بالفعل ؟
لكن هذه الفرضيات عن الأكوان الأخري تواجه مشكلة أساسية وهي مقدرتنا علي
التأكد من صحتها تجريبياً إن السؤال عن ” هل هناك أكوان أخري بالفعل ؟ ”
صعب الإجابة في وضعنا العلمي الحالي ، وربما لا نتمكن من إجابته أبداً ،
لكن من يدري ربما نفعل ، كل ما نحتاج إليه الأن هو مواصلة العمل لتطوير
أدوات أكثر دقة ونماذج أكثر وضوحاً وقبولاً للتكذيب لكي نستطيع من خلالها
ربما يوماً ما من التأكد من تلك الفكرة .
إلي
أن تحين تلك اللحظة لا يمكن أن نتعامل مع تلك النماذج كواقع علي الأرض ،
نحن ما زلنا في أرض أقرب للخيال لكنه خيال يستحق التأمل والعمل عليه ، ربما
يوماً ما نجيب عن أسئلتنا الأكثر إلحاحاً : ما الطاقة المظلمة ؟ وما
المادة المظلمة ؟ ما الذي حدث لحظة الإنفجار العظيم ذاتها ؟ ما الزمن ؟ ما الحياة ؟
https://m.janatna.com