المتابع
للسينما
العالمية لابد وأنه لاحظ علاقة الثنائيات التى جمعت بين أشهر وأهم صناع
الأفلام
ونجماتهم وجعلت التعاون بينهم يمتد لسلاسل من الأفلام تكون غالباً هى
الأفلام
الأقوى والألمع فى تاريخ عنصرى الثنائى. أعلم أن مقولة “الحب وراء
الكاميرات يظهر أمامها أيضاً” أصبحت كليشيه فاقد المصداقية يستخدم فى
الأفلام الكوميدية من أجل السخرية من مرددى هذه العبارة، لكن هذا لا ينطبق
أبداً على بعض النماذج التى تعطى لهذه المقولة كامل مصداقيتها .. فيلينى
وماسينا، آلن وكيتون، بيرجمان وأولمان، فاديم وباردو، جودار
وكارينا أنطونيونى وفيتى، تارانتينو وثيرمان .. وغيرهم.
وهنا
لابد أن نتوقف لنشرح مفهوم “الحب” الذى نقصده بالعبارة، هل هو حب الرجل
للمرأة عاطفياً؟، هل هو رغبة الرجل بالمرأة جنسياً؟، لا أعتقد أنه يبتعد
كثيراً عن هذه المفاهيم، فكافة الثنائيات التى لمعت سوياً قد تورطت بشكل ما
فى علاقات جنسية أو زواج (أبرز الاستثنائات هى كيشلوفسكى وإيرين جاكوب) .
لكن ما كان يظهر على الشاشة يؤكد أن المعنى يفوق ذلك، لقد تفنن هؤلاء فى
إظهار إناثهم بصورة فائقة السحر، ولم يكن الأمر دائماً غرائزى، أى لم تستمد
الأنثى سحرها معهم من كونها مجرد هدف أو أداة جنسية، فأحياناً يأتى سحر
ماسينا مع فيلينى من كونها مسكينة، أو يأتى سحر أولمان مع بيرجمان من كونها
مضطربة نفسياً، أو يأتى سحر كيتون مع آلن من كونها طبيعية لدرجة خرقاء، أو
مجنونة وجامحة كما كانت كارينا فى أحيان مع جودار، أو عنيفة وحديدية فى
أحيان مثل إيما ثيرمان مع تارانتينو.
إذاً
فالأمر ليس دائماً جنسى، وإن كان الجنس عنصر حاضر لا يجب تهميشه تماماً،
وأقصد هنا محرك الصانع – لا الجمهور – تجاه بطلته، وأعنى بالطبع المفهوم
الفرويدى للجنس وليس مفهوم “تهامى باشا”. ما أردت التأكيد عليه هو أن السحر
لم يفارقهن حتى مع عوار الشخصيات اللاتى جسدونها وغياب جاذبيتها الجنسية
فى أحيان ما يعنى أن هناك مُحرك أكثر تعقيداً لنجاح هذه الثنائيات وجعلها
بمثابة تحريض دائم على نوع شديد التميز من الابداع.
تحكى
ليف أولمان أنها قد شكت يوماً لإنجمار بيرجمان – بعد سنين من العمل معاً –
من أنها أينما ذهبت يحدثونها أو يسألونها عنه، فيرد بيرجمان: “هذا أمر
طبيعى، لقد كنتى فى يوم ما “الستراديفارى” الخاصة بى”، (الستراديفارى هى
آلة موسيقية تشبه الكمانجة والتشيلو وتتمتع بصوت أكثر شجن ورهافة، وتستخدم
الكلمة أحيانا لوصف شىء بأنه رائع وأصيل)، تتابع أولمان بنشوة انتصار: “هل
تعلم ما يعنيه أمر أن تكون آلة ستراديفارى لشخص كإنجمار بيرجمان؟”. أعتقد
أن بيرجمان بتشبيهه ذلك قد إقترب بقوة من المعنى المنشود، نلاحظ فى إختياره
لتلك الآلة الموسيقية دون غيرها – بجانب كونها الآلة الأقوى تأثيراً فى
العاطفة – بأنها أيضاً الآلة التى يحتضنها العازف أثناء الأداء، ما يعطى
التشبيه بُعداً أكثر حميمية .. حميمية من النوع الذى ينتج عنه سيمفونيات،
ويبعده بدوره عن المعنى المادى النفعى الجاف لفكرة الآلة.
وليكتمل
المعنى من تشبيه بيرجمان بصورة أكثر تفصيلاً فلابد من إضافة تعريف “سيدنى
لوميت” عن الممثل، لوميت ليس من بين المخرجين السابق ذكرهم ولكنه عرف بحبه
الشديد للممثلين لدرجة ربما جعلته يصل لسر المعنى الذى نطارده، يقول:
“الموسيقى يوصل الأحاسيس من خلال الآلة التى يعزف عليها، والراقص من خلال
حركات الجسد .. بكلمات أخرى فإن الآلة التى يعزف عليها الممثل هى ذاته،
نفسه، أحاسيسه، ملامحه الجسمانية، دموعه، ضحكه، غضبه، رومانسيته، رقته،
شره.” – من كتاب فن الإخراج السينمائى تأليف سيدنى لوميت وترجمة أحمد يوسف.
أول الكلمات التى استخدمها لوميت فى وصف آلة الممثل هى “ذاته”، وما تبع الكلمة من صفات كلها مستمدة من
نفس الذات، أى أن لوميت هنا جعل مفهوم الممثل يرتقى من درجة مؤدٍ أو مقلد
أو مشخص، إلى درجة أكثر سمواً، إلى درجة أنه كيان. ذلك أمر شديد الأهمية
لموضوعنا خاصة عندما نعلم مثلاً أن وودى آلن قد إستلهم تحفته “آنى هول” من
شخصية “ديان كيتون” الحقيقية ومن بعض تفاصيل تجربتهما العاطفية معاً، ربما
الحالة أوضح مع آلن لكنها لا تتوقف عنده، فجميع المخرجين الذين نتحدث عنهم
هم من كتبوا أعمالهم، والمخرج حين يكتب أعماله فهو يعرف جيداً من قد
يؤديها. حسناً، فأنت حين تكتب فيلماً بطلته هى بريجيت باردو لابد وأن ذلك
يؤثر على كتابتك، هذا ما يصل بنا فى بحث علاقة الثنائيات من مفهوم الجاذبية
الجنسية وكيمياء التفاهم وعلاقة العازف بالآلة الموسيقية، إلى مفهوم جديد
وهو الإلهام.
أتصور
أن ذلك كان سبباً مباشراً فى أن علاقات الثنائيات بين المخرج والممثلة قد
عُرفت بين النقاد المتحدثين باللغة الإنجليزية بكلمة Muse، أى أن الممثلة
الفلانية هى “ميوز” المخرج الفلانى، وبتتبع أصل تلك الكلمة نجدها مشتقة من
كلمة Mousa
وهى كلمة يونانية قديمة تشبه كلمة “مُزة” التى تستخدم فى العامية المصرية
لوصف الرفيقة رائعة الجمال، والمثير أن الكلمة كانت تستخدم أيضاً فى
الحضارة الإغريقية لمفهوم قريب من ذلك فقد كانت تعنى “إلهة الإلهام
الجميلة”، حيث تقول الأسطورة أن كبير الآلهة الإغريق “زيوس” له تسع بنات
عرفن بجمالهن كمصادر إلهام أثناء التأليف الموسيقى، وفى أوقات لاحقة،
بملهمات جميع أنواع الفنون والشعر والعلوم، فقد كان يتوجه الفنان نحو
جداريات أو تماثيل الإلهات ويدعوهن بالهامه الإبداع.
ربما
لم يعلم جميع مخرجى الثنائيات الذين أشرت لهم بهذا الأمر، وبرغم كونهم
جميعاً ملحدون والبعض منهم متعصب فى إلحاده، إللا أنهم وللطرافة قد سقطوا
رُهباناً فيما يخص هذه الأسطورة الميثولوجية، بعضهم ظل شديد الإخلاص لها
حتى مع شركاء آخرين، بيرجمان قد ضاجع ثمانية من بطلاته، فيللينى ظل أسير
بطلاته حتى بعد مرحلة ماسينا، تشهد على ذلك الطريقة التى قدم بها كلوديا
كاردينال وأنيتا إيكبيرج والتى تتميز بشكل لافت ومثير عن أى ظهور آخر
لهاتين النجمتين رغم أنه لم يعمّر كثيراً معهما. وها هو وودى آلن ينتقل من
الميوز إلى الآخر، فمن كيتون لميا فارو لسكارليت جوهانسن ويبدو أن إيما
ستون هى آخر ميوزاته.
لم
تُعرف نظرية المزة/الميوز فى السينما المصرية بشكل حقيقى سوى مع فاتن
حمامة، وربما بدرجة أقل سعاد حسنى على أصعدة غير سينمائية، فيكفيها أنها
كانت الميوز/المزة لأبرز مطرب عاطفى فى تاريخ الشرق عبد الحليم حافظ، أما
فاتن حمامة فهى من كانت الحلم الأول لمخرجى عصرها، تزوجها عز الدين ذو
الفقار ووقع فى غرامها يوسف شاهين قبل وبعد أن تفضل عليه عمر الشريف الذى
غيّر ديانته من أجلها، جمعت فاتن فى ظهورها على الشاشة كل معانى البهاء
التى يمكن كتباتها متفوقة بصورة لا تقارن عن أى نجمة أخرى.
عُرفت
هذه الفترة بالعصر الذهبى للسينما المصرية، ثم تبعها فترة اضمحلال تزيد عن
الأربعون عاماً، ولعل السبب الذى يتجاهله دائماً منظروا السينما، فى رحلة
بحثهم المتواصلة عن سر هذا الاضمحلال، يكمن فى التشوّه الذى حدث بين مفهوم
المزة عند ذو الفقار وشاهين وهو الأكثر ولاءً للمعنى الإغريقى للكلمة، وبين
مفهومها المُستحدث عند اللمبى.
https://m.janatna.com